سورة الروم - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الروم)


        


{الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (10)}.
التفسير:
من أنباء الغيب:
قوله تعالى: {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ}.
قلنا إنه في هذا الجو الخانق الكئيب، الذي كان يتنفس فيه المسلمون سموم الشماتة من أفواه المشركين، لهذه الهزيمة التي لحقت بالروم على يد الفرس- في هذا الجو تلقى المسلمون في مكة هذه الآيات من مطلع سورة الروم، فوجدوا في أنفاسها المطهرة، أرواحا طيبة، سرت في كيانهم، فتفتحت لها قلوبهم، وانتعشت بها مشاعرهم، وزغردت لها أرواحهم.!
إنهم تلقوا من اللّه سبحانه وعدا كريما بنصر الروم، وإنهم ليجدون هذا الوعد واقعا محققا، قبل أن يقع.. إنهم مؤمنون بربهم، مستيقنون بما يعدهم به.
وحين يرى المشركون هذه الحال، التي لبست المسلمين من الرضا والطمأنينة، يتساءلون فيما بينهم. ماذا جرى؟ وأي شيء بدّل حال المسلمين، فأصبحوا على غير ما أمسوا عليه؟ وتجيئهم الأنباء، بأن محمدا تحدث إليهم بما اعتاد أن يلقاهم به من حديث يقول إنه تلقاه من ربه، وأن ما حدثهم به اليوم، هو أن الروم وإن غلبوا في تلك المعركة التي دارت بينهم وبين الفرس منذ قليل، فإنهم سيغلبون، وأن ذلك سيكون بعد بضع سنين!!.
أهكذا الأمر إذن؟ وأ لهذا كانت تلك الفرحة التي تعلو وجوه المسلمين؟
ألا ما أخف أحلامهم، وما أضل عقولهم؟! ألمثل هذا الكلام ينخدعون؟
وعلى مثل هذا الكلام يبنون قصورا من الأمانى والآمال؟ ألا يزالون على ضلالهم القديم، ينخدعون بما يحدثهم محمد به، من أحاديث لا تعدو أن تكون وعودا معلقة بالمستقبل البعيد أو القريب، لا يمسك المرء منها بشىء، في يومه أو غده؟ فأين البعث؟ وأين الحساب؟ وأين الجنة والنار؟ لقد أكثر محمد من تلك الأحاديث إلينا، وصدّع بها رءوسنا، وما نرى لذلك ظلا، وما نشهد له أثرا! ثم ها هى ذى تبلغ الجرأة بمحمد، فينتقل من الرجم بالغيب في أحشاء الزمن البعيد، المضاف إلى ما بعد موت الناس جميعا، إلى أن يرجم بالغيب في واقع حياتنا، مما لا يجاوز مداه بضع سنين؟ إنها عثرة قائلة، ولن نقيل محمدا منها.. فهيا أمسكوا به، متلبسا بهذا الكذب المفضوح، واضربوه الضربة القاضية، وقد سنحت لكم الفرصة فيه!! هكذا أدار المشركون الحديث حول هذه الآيات، ووجدوا- حسب زعمهم- أن فيها فرصتهم، للنيل من محمد، وبضربته ضربة في الصميم من دعوته.
إنها لسنوات معدودة، {بضع سنين} تنحصر فيما بين ثلاث وعشر، وبعدها ينكشف الأمر، فماذا لو ظلت الحال على ما هى عليه، فلم تقع حرب بين الروم والفرس خلال هذه السنوات المعدودات؟ وماذا لو وقعت حرب بينهما ثم دارت الدائرة فيها على الروم مرة أخرى؟ أيكون لمحمد وجه يلقى به الناس بعد هذا؟ أو يجد محمد بعد هذا أذنا تسمع له، أو إنسانا يصدق له قولا؟
والحق أن هذا صحيح.. فلو أنه لم تقع حرب بين الفرس والروم خلال هذه المدة المحدودة، المحصورة في بضع سنين، ثم لو وقعت هذه الحرب ولم يكن النصر والغلب للروم على الفرس فيها- لو أنه لم يحدث هذا، لما كان لمحمد ولا لدعوة محمد مكان في هذه الدنيا، ولذهب كل شىء، ولا ختفى كل أثر لمحمد، ولدعوة محمد إلى الأبد!.
إنها دعوة قائمة على أنها من عند اللّه، وأن محمدا، يتلقى آياتها وكلماتها من ربه... وهذا يعنى أنها الصدق الذي لا تعلق به شائبة من كذب، وأنها الحق الذي لا يلم به الباطل أبدا.. فإذا طاف بهذا الكلام طائف من الكذب، أو علق به ولو ذرّة من شك وارتياب- كان ذلك واقعا بين أمرين، لا ثالث لهما:
إما أن يكون هذا الكلام من عمل محمد، ومن مقولاته التي يتصيدها من هنا وهناك.. وإذن فهو كاذب فيما يدعيه من أنه رسول اللّه، وأنه يتلقى هذا القرآن، وحيا من ربه.. وإذن فقد بطلت دعواه بأنه رسول من عند اللّه.
وإما أن يكون هذا الكلام، وحيا كما يقول محمد، ولكنه ليس وحيا من عند اللّه، وإنما هو مما تلقيه الشياطين، على بعض الناس، كالعرافين، والشعراء.. وإذن فقد بطلت دعواه أيضا بأن ما يحدثهم به هو وحي من عند اللّه... لأن اللّه لا يكذب، ولا يفترى!.
والحق أيضا أن هذه الآيات، وما حملت من هذا الغيب، الذي أذاعته في الناس جميعا، والذي ترددت أنباؤه على أسماع الناس في الجزيرة العربية، وما فيها من مشركين وأهل كتاب، بل وربما جاوزت الجزيرة العربية إلى فارس والروم. الحق أن هذا كان تحديا للناس جميعا، بهذه المعجزة المادية المحسوسة... وقد كان ذلك فيما يبدو- في ظاهر الأمر- مغامرة انتحارية من محمد، كما كان فرصة للذين يرصدون دعوة محمد، ويريدون أن يعرفوا على وجه اليقين، مبلغ صدقها أو كذبها.
وكعادة المشركين الضالين، الذين استقبلوا الدعوة الإسلامية من أول يومها بإعلان الحرب عليها، من قبل أن ينظروا في وجهها، وأن يتبينوا دلائل الحق التي بين يديها- كعادتهم في مواجهة الدعوة الإسلامية بالكفر والعناد، استقبلوا هذه الآيات بالهزء والسخرية، وأقبلوا إلى المسلمين يسلقونهم بألسنة حداد، بما عرف فيهم من لجاج ولدد في الخصومة.. فما هذا الخبر الذي حملته الآيات، إلا وعدا كتلك الوعود الكثيرة التي أوسع لها محمد في الأجل، فجعلها في عالم آخر، نصب فيه موازين الحساب والجزاء، وأقام في ساحاته الجنة والنار... وإذا كان في هذا الوعد الجديد شىء، فهو في قرب الأجل المضروب له... وهذا القرب هو في ذاته دليل على كذبه، وأنه ليس من عند اللّه.
إذ لو كان عن إرادة نصر من عنده لأهل الكتاب على المجوس- لكان ذلك أمرا منجزا، ولما كان للّه أن يؤخره بضع سنين... إذ لا داعية لهذا التأخير، ما دامت قدرة اللّه حاضرة قادرة أبدا.. بل وأكثر من هذا، فإن هذا النصر لو كان إرادة للّه لما وقعت الهزيمة أصلا بالروم، ولكان نصرهم قبل هزيمتهم أوقع وأقرب من نصرهم بعد الهزيمة!.
هكذا، لقى المشركون المسلمين بهذه المقولات وأمثالها، حتى لقد أدّى الأمر إلى أن تقوم مخاطرات بين المسلمين والمشركين، على وقوع هذا الخبر أو عدم وقوعه، وحتى لقد قيل إن أبا بكر- رضى عنه- خاطر أبىّ بن خلف، على عدد من الإبل، يؤديها إلى أبى بكر، إذا غلبت الروم الفرس خلال سبع سنوات، ويؤديها أبو بكر إلى أبىّ، إذا غلبت الفرس الروم، أو لم تقع بينهما حرب أصلا، خلال هذه السنوات السبع!.
وتمضى الأيام، وتتحرك الأحداث، ويهاجر النبي والمسلمون إلى المدينة، ويلتقى المسلمون والمشركون في موقعة بدر في السابع عشر من رمضان، للسنة الثانية من الهجرة، وينتصر المسلمون نصرا كاملا مؤزرا، ويهزم المشركون هزيمة نكراء، فيقتل منهم سبعون رأسا من رءوسهم، ويؤسر سبعون..!
وفي هذا الوقت الذي كانت تدور فيه معركة بدر بين المسلمين والمشركين، وتدور فيها الدائرة على الشرك وأهله، كانت هناك معارك دائرة بين الروم والفرس، وفيها ينهزم الفرس هزيمة إلى الأبد، فلا تقوم لهم بعدها دولة.
فما هى إلا سنوات بعد هذه الهزيمة التي حلّت بهم، حتى تدخل جيوش المسلمين بلاد فارس، وتستولى عليها، وتضمها إلى الدولة الإسلامية.
وليس هذا رجما بالغيب، ولا استملاء من أساطير الأولين، كما يتخرص المتخرصون عن القصص القرآنى.
وهذه صحف التاريخ التي سجّلت هذه الأحداث في وقتها، لا تزال بين يدى أهلها، الذين ليس لهم مصلحة في أن يقيموا تاريخهم على ما يطابق أخبار القرآن، ويجىء مصدّقا له.
والثابت في هذا التاريخ، أنه في سنة 614 من الميلاد كانت تدور معركة بين القرس والروم، وقد بدأت طلائع الهزيمة تنزل بالروم، فاستولى الفرس على أنطاكية، وهى من كبريات المدن الشرقية للدولة الرومانية، ثم استولوا بعد ذلك على دمشق، ثم على بيت المقدس ذاتها، وأشعلوا فيها النيران، وأحرقوا كنيسة القيامة.
وعام 614 من الميلاد واقع بعد بعثة النبي صلى اللّه عليه وسلم، وسابق لهجرته صلوات اللّه وسلامه عليه.
وطبيعى أن أنباء هذه المعركة، لم تصل إلى مكة في يومها، وربّما يكون ذلك بعد عام أو أقل من عام، وإن لنا أن نفترض أنه في عام 615 من الميلاد كان نزول هذه الآيات التي نزلت بها أول سورة الروم، لتلتقى مع هذا الحدث، ووقعه على المسلمين والمشركين في مكة.
وقد حدّدت الآيات أنه بعد بضع سنين سيكون الغلب للروم.. وإذا كان البضع بين ثلاث إلى عشر.. فاسمع ما جرى، وما تحدث به صحف التاريخ الرومانىّ.
تقول تلك الصحيفة: إنه في سنة 622 من الميلاد- أي بعد سبع أو ثمانى سنين من حرب الروم والفرس، بدأت المعارك بين الروم والفرس مرة أخرى، وكان هذا إرهاصا- عند من يرقب الأحداث- بأن ما تحدّث به القرآن عن هاتين الدولتين يمكن أن يقع على ما أخبر به!.
ومع هذا، فإن المشركين حين بلغتهم أنباء هذه المعارك، كانوا يتوقعون النصر للفرس، ولهذا، فإن أبىّ بن خلف حين علم بهجرة أبى بكر طلب إلى عبد اللّه بن أبى بكر أن يكون كفيلا لأبيه في أداء ما خاطره به، إذا غلبت الفرس، وقد قبل عبد اللّه بن أبى بكر هذا.
وفي عام 624 من الميلاد، كانت معركة بدر، وحين خرج أمية بن خلف فيمن خرج من المشركين لحرب النبي والمسلمين، أمسك به عبد اللّه بن أبى بكر عن الخروج، إلا أن يقيم كفيلا يؤدى عنه ما خاطر عليه أبا بكر إذا انهزمت الفرس، وغلبت الروم، فأقام كفيلا له.
وهذا يعنى أن الحرب التي بدأت بين الدولتين في سنة 622، كانت ما تزال قائمة لم تنته بعد إلى نتيجة حاسمة، أو أنها قد تكون قد انتهت، ولكن أخبارها لم تكن قد وصلت إلى أهل مكة.
وعلى أىّ فإنه لم يكد المسلمون يفرغون من المشركين في معركة بدر، ويأخذون طريقهم إلى المدينة، وفي قلوبهم فرحة النصر، وفي أيديهم ما وقع لهم من مغانم- حتى يلقاهم على طريق المدينة من يخبرهم بما انتهى إليه أمر القتال الذي كان دائرا بين الفرس والروم، وأن الروم قد هزموا الفرس، وأخرجوهم من بيت المقدس، وما استولوا عليه من بلاد الروم، كما استولوا على كثير من مدن فارس وأقاليمها.. وبهذا جاءت فرحة المسلمين بهذا النصر الذي مكن لهم من رقاب المشركين يوم بدر- جاءت هذه الفرحة موقوتة بالوقت الذي نطقت به الآيات في قوله تعالى: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ} أي أن يوم غلبة الروم للفرس، سيكون في هذا اليوم الذي ينتصر فيه المسلمون على المشركين، وتمتلىء قلوبهم فرحة بهذا النصر العظيم.. فالنصر الذي يفرح به المؤمنون حقّا، هو نصرهم على المشركين من أهل مكة، الذين سخروا منهم، وصبّوا عليهم ألوان البلاء، وأخرجوهم من ديارهم.. وهذا هو نصر اللّه الذي وعدهم به، ووقّت له غلبة الروم للفرس! وهذا هو السرّ- واللّه أعلم- في هذا الذي جاء عليه النظم القرآنى، من التعبير عن الصراع بين الفرس والروم بالغلب والتغالب، على حين جاء التعبير عن غلبة المسلمين للمشركين، بكلمة النصر.
فهو نصر لدين اللّه، ونصر للحق في أعلى منازله.. إنه صراع بين إيمان خالص وشرك صريح.
فإذا غلب لإيمان الشرك، فهو نصر للحياة، وللإنسانية كلها، وحقّ له أن يضاف إلى اللّه: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ}.
أما الصراع الذي كان دائرا بين الروم والفرس، فلم يكن قتالا في سبيل اللّه، ولا انتصارا لدين اللّه، وإنما كان قتالا على سلطان، وتقاتلا على سلطة، تتنازعها لدولتان منذ قرون طويلة.
أما التفات الدعوة الإسلامية إلى هذا الصراع، فلم يكن إلا ردّا على ما تنادى به المشركون في مكة، وما استقبلوا به أخبار انتصار الفرس وهزيمة الروم، فاتخذوا من الفرس جبهة لهم، على حين عدّوا جبهة الروم المهزومة جبهة للمسلمين.. ولهذا جاء قوله تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} جاء خبرا حياديّا، يحدث عن الواقع الذي سيقع بعد بضع سنين، ليقطع على المشركين فرحتهم التي اصطنعوها من هذا الخبر الذي جاهم بنصر الفرس، وليقول لهم: لا تفرحوا لأمر تستقبلون أوله، ولا تدرون ما يقع في آخره.. فهذا الغلب الذي تفرحون به، هو غلب موقوت ستعقبه هزيمة خلال بضع سنين! ولهذا جاه قوله تعالى بعد ذلك:
{وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا} فهذا للقول وإن كان تعقيبا واقعا على قوله تعالى: {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} فإنه يشير من طرف خفىّ إلى قصر أنظار المشركين، وأنهم لا تمدون أبصارهم إلى أبعد من مواقع أقدامهم، ولو أنهم أحسنوا النظر إلى هذا النبأ الذي جاءهم بغلبة الفرس، لما استبدّ بهم الفرح، ولعلموا أن الغلب قد تعقبه هزيمة، وأن الهزيمة قد يتلوها غلب... هكذا تجرى أمور الناس في هذه الحياة: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ}.
ولكن القوم- لجهلهم، وعمى بصائرهم- لا يقفون من الأمور إلا عند ظواهرها، ولا يأخذون منها إلا ما يلقاهم على يومهم.. وهذا شأنهم في دينهم الذي يدينون به.. إنهم أحلوا أنفسهم من كلّ شيء يشغلهم عن حياتهم الدنيا، فهى يومهم الذي لا يوم لهم بعده.. أما الآخرة، فلا شأن لهم بها.. إنهم في غفلة عن كلّ أمر يصلهم بها، وفي صمم عن كل حديث يلقى إليهم عنها.
قوله تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ}.
المراد بأدنى الأرض، أقربها، وهى أقرب البلاد من مملكة الروم الشاسعة، إلى جزيرة العرب، وهى تلك البلاد الواقعة في المناطق الشرقية من مملكة الروم.. كدمشق وبيت المقدس وغيرها.
{فِي بِضْعِ سِنِينَ}.
هو تحديد للوقت الذي يقع فيه هذا الخبر.. والبضع من السنين ما بين الثلاث إلى العشر.
{لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} أي أن الأمر كله للّه، من قبل الغلب ومن بعده.. فما غلب الغالبون إلا بأمر اللّه، وعن إرادته ومشيئته.. وما سيغلب المنهزمون إلا بأمر اللّه، وعن إرادته ومشيئته {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [78: النساء].
{وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ}.
أي في هذا الوقت الذي يقع فيه هذا الخبر، وهو غلبة الروم للفرس، سيقع أمر أهمّ وأعظم، وهو انتصار المسلمين على المشركين، حيث يمدهم اللّه بنصره، ويمنحهم عونه وتأييده، فتمتلىء بالفرحة صدورهم، وتخفق بالرضا والسرور قلوبهم.
{يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ.. وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}.
فالنصر بيد اللّه وحده، ليس لأحد شركة مع اللّه فيه، فهو العزيز ذو القوة والبأس، الرحيم الذي يوسع من رحمته لعباده المؤمنين، فيعزهم بعزته.
{وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ.. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
{وَعْدَ اللَّهِ} مفعول به لفعل محذوف، تقديره: صدّقوا وعد اللّه، أو استيقنوا وعد اللّه. ونحو هذا.
وقوله تعالى: {وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} أي لا يعلمون هذه الحقيقة، وهى أن اللّه لا يخلف وعده.. والمراد بأكثر الناس هنا هم المشركون والضالون، الذين لا يؤمنون باللّه.. فهؤلاء هم أكثرية الناس.. وهم لا يصدقون ما تتحدث به إليهم آيات اللّه، عن اللّه، لأنهم لا يقدرون اللّه حق قدرة، ولا يعلمون ما ينبغى أن يكون له سبحانه من صفات الكمال والجلال.
{يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ}.
هذا هو علم المشركين، والضالين المكذبين باللّه.. إن علمهم محصور فيما يتعلق بأمور الدنيا، وما هم فيه من لهو ومتاع بها.
وفي قوله تعالى: {ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا} إشارة إلى أن العلم في ذاته مطلوب، لكل أمر يعالجه الإنسان.. وأن العلم- حيث كان- نور يهدى صاحبه، ويكشف له معالم الطريق إلى الخير والحق.. هذا إذا كان العلم قائما على نظر سليم، وإدراك صحيح، وإلا فهو سراب يخدع صاحبه، ويضله عن سواء السبيل.
وعلم هؤلاء المشركين، الضالين، المكذبين باللّه- مع أنه مقصور على هذه الحياة الدنيا- هو علم يقف عند ظاهر الأمور فيها، ولا ينفذ إلى الصميم منها.. ومن هنا ينخدع هؤلاء الضالون بهذا العلم الذي لا يمسك من الأشياء إلا ببريقها، ولمعانها، فيندفعون به إلى مواقع الهلاك، كما يندفع الفراش إلى النار، مأخوذا بضوئها، مبهورا بألسنة لهيبها.
أما العلم الحقيقي بالحياة الدنيا، وبما فيها من آيات اللّه المبثوثة في كل ذرة من ذراتها، وما أودع اللّه سبحانه في الكائنات من أسرار، فذلك علم من شأنه أن يفتح مغالق العقول، ويضىء جوانب البصيرة، ويهدى صاحبه إلى كل ما هو حق وخير.
وبهذا العلم، يرى العالم قدرة اللّه، ويتعرف إلى بعض ماله- سبحانه- من علم وحكمة، فيؤمن باللّه، ويؤمن بما أرسل اللّه من رسل، وما أنزل من كتب.. وبهذا العلم يصل العالم بين الدنيا والآخرة، فيعمل لهما معا.. إذ لا تعارض بين الدنيا والآخرة، عند من يعلم حقيقة الدنيا، ومكانها من الآخرة.
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ}.
هو دعوة إلى هؤلاء المشركين الغافلين عن الحياة الآخرة، أن يتفكروا في أنفسهم وما قام عليه خلقهم.. وكيف كان الإنسان ترابا، ثم نطفة، ثم صار رجلا.. فإن أقرب شيء إلى الإنسان هو ذاته، وهذا يوجب عليه أن يتعرف إلى أقرب قريب إليه، قبل أن يمد بصره إلى ما وراءه، واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ}.
فإذا نظر الإنسان إلى نفسه، نظرا سليما واعيا، عرف بعض ما للخالق سبحانه وتعالى، من عظمة، وجلال، وعلم، وقدرة.. حتى يخرج من هذا التراب الهامد، هذا الإنسان العاقل، المدرك، المتكلم! وبهذا يعلم الإنسان أن هذا الوجود في أرضه وسمائه، وفيما بين أرضه وسمائه- لم يخلق إلا بالحق، ولم يخلق لهوا وعبثا... وأن كل مخلوق في هذا الوجود هو بعض منه، وأنه لن تنتقض لبنة من بناء هذا الوجود أبدا.. فكل كائن فيه- وإن صغر- دوره الذي يقوم به في وحدة هذا النظام الممسك بالوجود، وله فلكه الذي يدور فيه، كما تدور النجوم في أفلاكها... تشرق، وتغرب.. ولكنها لا تفنى، ولا تندثر! والإنسان كائن من الكائنات ذات الشأن العظيم في هذا الوجود، فكيف يقع لعقل عاقل أن تنتهى حياة هذا الإنسان بتلك الدورة القصيرة التي يدورها في فلك الوجود، والتي هى سنوات معدودة يقضيها في هذه الدنيا؟ ألهذا خلق الإنسان؟ ولهذا كان خلقه على تلك الصورة العجيبة التي استحق بها أن يكون خليفة للّه في هذه الأرض؟.
كلا، إن الإنسان لن تنتهى حياته بهذه الدورة القصيرة على الكوكب الأرضى، وإن له لحياة أخرى، أعظم، وأبقى... ولكن كثيرا من الناس بلقاء ربهم كافرون.. لا يصدقون بأنهم مبعوثون بعد الموت، وأنهم ملاقون ربهم، يوم يقوم الناس لرب العالمين.
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}.
هؤلاء المشركون الضالون، إذا لم يكن لهم نظر في أنفسهم، أو كان لهم نظر ولكنه لم يكشف لهم مواقع الحق فيما رأوا منها- أفما كان لهم نظر إلى ما بين أيديهم، وتحت أبصارهم، من بقايا هذه الأمم التي كانت تعمر تلك الأطلال البالية، وهذه القرى الغارقة في أحضان البلى؟ ثم ألا رأوا في هذه المخلفات ما كان عليه أهلها من حياة عامرة، زاخرة، وما كان لهم من قوة وبأس شديد...؟ ثم ألا أعادوا النظر مرة أخرى، فرأوا كيف تبدلت الحال، وكيف ساء المصير؟ لقد كفروا بآيات اللّه، وكذبوا رسله، فأوقع اللّه بهم عقابه، وأخذهم ببأسه، فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم {وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}.
لقد ظلموا هم أنفسهم، فحادوا بها عن طريق الهدى، وأوردوها موارد الهلاك.
وفي قوله تعالى: {أَثارُوا الْأَرْضَ} إشارة إلى أنهم قلّبوا وجوهها، واستخرجوا خبأها.
قوله تعالى: {ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ}.
السّوءى: أي العاقبة السيئة، وهى ضد الحسنى.. كما يقول الشاعر:
أنّى جزوا عامرا سوءا بفعلهم *** أم كيف يجزوننى السوءى من الحسن؟
وهى اسم كان مرفوع، وخبرها {عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا} والتقدير: ثم كانت السوءى عاقبة الذين أساءوا.. أي جزاهم اللّه سوءا لفعلهم السيّء.
كما يقول سبحانه: {وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها}، وهو من باب المقابلة، وذلك لأن ما يجزون به، إنما هو سوء بالنسبة لهم، لأنه يسوءهم ويؤذيهم.. أما الجهة التي توجهت به إليهم، فهو ليس منها، وإنما هو فعلهم، عاد إليهم، فالأمر لا يعدو أن يكون فعلا وردّ فعل!.
وقدم الخبر على الاسم، وأخر الاسم، لإثارة حب الاستطلاع إليه، بحجبه قليلا وراء الخبر، فإذا طلع على أهله لم يجدوا فيه إلا ما يسوء!! وقوله تعالى: {أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ} هو تعليل لهذا الجزاء السيّء الذي جوزوا به، أي لأنهم كذبوا بآيات اللّه ولم يقفوا عند حد التكذيب بها، بل اتخذوها هزءا وسخرية، ومادة للعبث والبذاءة- كان هذا جزاؤهم السيّء.


{اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (16) فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (19)}.
التفسير:
قوله تعالى: {اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.
هو تعقيب على ما دعت إليه الآيات السابقة، من التفكر في النفس، أي في الذات الإنسانية، وما أودع الخالق العظيم في الإنسان من قوى وملكات ثم النظر في خلق السموات والأرض.. ثم السير في الأرض، والوقوف على أطلال الأمم الغابرة ليروا ما حلّ بالظالمين من بأس اللّه وعذابه.
فهذا التفكر والنظر والتدبر، في داخل النفس وخارجها، من شأنه أن يفتح للإنسان طريقا إلى الحق، وأن يدلّه على اللّه سبحانه وتعالى، وما له جلّ شأنه من قدرة لا يعجزها شىء... فكان قوله تعالى: {اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} هو الحكم الذي يقضى به النظر في هذا الوجود، والذي إن لم يستدل إليه الإنسان بنظره، ثم جاءه من يحدثه به، كان جديرا بأن يقبله، إذ كان على امتداد النظر، وفي مواجهة الفكر.
فإن أنكر الإنسان معطيات حواسه، ومدركات عقله، ثم كذّب ما يحدّثه به أهل الصدق والعلم، فلن يهتدى إلى حق أبدا، ولن يحصل على خير أبدا، ولن يصير إلا إلى أسوأ مصير.
قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ}.
هو تهديد وإزعاج لهؤلاء المشركين، الذين أنكروا البعث، ولم يتلقوا قوله تعالى: {اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} لم يتلقوه بالقبول، والإيمان... إنهم مجرمون.. والمجرمون وإن رضوا بالحياة الدنيا، واطمأنوا بها، فإنهم سيلقون يوم القيامة هوانا وبلاء، حيث يشتمل عليهم الهول، مما يرون من عذاب اللّه، فيبلسون، أي يحمدون في أماكنهم، وتجمد حواستهم، مما يطلع عليهم من أهوال ومفزعات.
قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ}.
أي لم يكن لهؤلاء المجرمين من شافع يشفع لهم، ويجيرهم من عذاب اللّه، وأن معبوداتهم التي كانوا يعبدونها من دون اللّه، قد ضلّت عنهم، وقد كانوا من قبل على يقين بأنهم سيشفعون لهم عند اللّه، كما يقول اللّه تعالى عنهم:
{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ} [18: يونس]- وقوله تعالى: {وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ}.
أي وكان هؤلاء المشركون، من أهل الكفر والضلال، بسبب شركائهم هؤلاء الذين عبدوهم من دون اللّه... فهم بعبادة هذه المعبودات لبسوا ثوب الكفر، وكانوا من الكافرين... وللكافرين عذاب مهين.
قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ}.
أي أنه إذا كان بين هؤلاء المشركين وبين معبوداتهم ولاء، هو ولاء التابع للمتبوع- ثم كان بين بعضهم وبعض، اجتماع وائتلاف، على عبادة هذه المعبودات، والدفاع عنها، ودفع كل يد أو لسان يمتد إليها بسوء- فإنه في يوم القيامة، ستتقطع بينهم جميعا الأسباب، فلا يلتفت المعبودون إلى عابديهم، ولا ينظر عابد في وجه عابد أو معبود.. {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}.
{وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً}.
قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ}.
الحبر، والحبور: السّرور والغبطة، والرضوان.. والروضة: الجنة.
أي أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، لا يحزنهم هذا اليوم، ولا يضرّهم التفرّق، إذ كان مع كل مؤمن عمله، الذي يؤنسه، ويذهب وحشته، ويملأ قلبه طمأنينة وأمنا، بما يرى من بشريات الإيمان والأعمال الصالحة، التي بين يديه.
إن المؤمنين الذين عملوا الصالحات سينزلون في هذا اليوم أكرم منزل.
إنهم في روضات الجنات، ينعمون بما أعد اللّه لهم فيها من موائد فضله وإحسانه.
قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ}.
هؤلاء هم الفريق الآخر، الشقىّ التعس يوم القيامة... إنهم هم الذين كفروا وكذّبوا بآيات اللّه، وأنكروا البعث والحساب والجزاء، فلم يقدّموا ليومهم هذا شيئا.. فليس لهم في الآخرة إلا النار.
وفي قوله تعالى: {فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ}.
إشارة إلى أنهم يساقون إلى العذاب سوقا، ويدفعون إلى البلاء دفعا.. إنهم يودّون أن يفرّوا من هذا البلاء الذي بين أيديهم، ولكن هناك من يمسك بهم على هذا البلاء، ويدفعهم إليه، في قوة قاهرة مدلة، لا يملكون لها دفعا.
قوله تعالى: {فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ}.
هو خبر، يراد به الأمر.. أي سبّحوا اللّه، وعظّموه، وأقيموا وجوهكم إليه بالدعاء والعبادة.
والخطاب دعوة للناس جميعا.. مؤمنين، وكافرين.
أما المؤمنون، فقد رأوا الجنة ونعيمها- وأما الكافرون، فقد عاينوا النار ولظاها.. فالمؤمنون يسبّحون اللّه، ليبقى عليهم ما أراهم من رحمته.
والكافرون يسبّحون اللّه، ليدفع عنهم ما أراهم من عذابه.
وقوله تعالى: {حِينَ تُمْسُونَ} أي تدخلون في المساء {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} أي تدخلون في الصباح.
وقوله تعالى: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} اعتراض بين مطلوب الدعوة بالتسبيح للّه سبحانه، من الناس، وذلك ليرى الناس أنهم ليسوا وحدهم الذين يسبّحون اللّه، فالسموات والأرض ومن فيهن تسبّح بحمد اللّه، كما يقول سبحانه: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}.
وقوله تعالى: {وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} معطوف على قوله تعالى: {فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} لأنه بمعنى: سبّحوا اللّه مساء وصبحا، وعشيّا، وحين تظهرون.
وفي هذه الآيات إشارة إلى الصلوات الخمس المفروضة، وأوقاتها.
ففى المساء.. صلاة المغرب والعشاء. وفي الإصباح.. صلاة الصبح، وفي العشى، صلاة العصر.. وفي الظهيرة.. صلاة الظهر.
قوله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ}.
فى هذه الآية استعراض عام، كاشف، لبعض قدرة اللّه، الذي يدعى العباد إلى تسبيحه، وعبادته... فالذى يسبّح اللّه مجرد تسبيح، ويعبده عبادة منقطعة عن التعرف على ما للّه سبحانه من جلال وعظمة، لا يحدث له هذا التسبيح، ولا تلك العبادة، حالا من اللقاء بربّه، لقاء تشرق به الروح، ويأنس به القلب، وتصفو به النفس، الأمر الذي من شأن العبادات أن تترك آثاره في العابدين.
وفي قوله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ، وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها} دعوة إلى القراءة الواعية في صحف الطبيعة، وما فيها من آيات الخلاق العظيم.. ففى كل نظرة يلقيها الإنسان على أي موقع من مواقع الحياة، يرى حياة تخرج من موات، ومواتا يخرج من حياة.. الشيء وضدّه، يتبادلان موقفهما.. فالميت يأخذ مكان الحىّ، والحىّ يحل مكان الميت، حتى لكأنهما كائن واحد لا فرق بينهما، في حالى الحياة والموت.
وهذا من عجيب قدرة اللّه، وبسط سلطانه على المخلوقات.
وفي قوله تعالى: {وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ} إشارة إلى أن خروج الموتى من القبور، لا يخرج عن أن يكون صورة من تلك الصور، التي تخرج فيها الحياة من عالم الموات... وأقرب مثل لهذا، الأرض الجرداء الجديب، ينزل عليها الماء، فتهتزّ وتربو وتنبت من كل زوج بهيج.
فهل تعجز قدرة اللّه أن تنفخ في هذا التراب الهامد، الذي احتوى أجساد الآدميين، فإذا هم بشر ينتشرون؟ واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً} [17- 18: نوح].
فلم ينكر المنكرون البعث؟ ولم يجادلون فيه؟ إنه ليس عن إنكار لقدرة اللّه، فما ينكر عاقل على هذه القدرة أي شىء.. ولكنه هروب من المسئولية، وفرار من مواجهة الحساب يوم القيامة، وإخلاء النفس من مشاعر الإيمان بالحياة الآخرة، لتنطلق كما تشاء، لاهية عابثة، تنفق كل شيء في سبيل حظوظها الدنيوية، لا تستبقى للآخرة شيئا!.. وهكذا يغرر المرء بنفسه، ويخدع عقله، ويستجيب لداعى هواه، فلا يرى من حقائق الأمور إلا ما يتفق وهواه.


{وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (22) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ}.
هذه الآية معطوفة على الآية قبلها: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ}.
فهذا من آيات اللّه... أي ومن آياته كذلك أن خلق الناس من تراب، ثم إذا هم بشر ينتشرون.
وقضية خلق الإنسان، كما جاء بها القرآن، تلتقى مع العقل، في كل طور من أطواره، صعودا، أو نزولا.
ففى القرآن الكريم عشرات من الصور التي خرج بها الإنسان إلى هذا العالم.. وهذه الصور وإن اختلفت مظهرا، فإنها تلتقى جميعا في مضمونها ومحتواها.
فالعقل في أدنى مستوياته يلتقى مثلا مع قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا} [13: الحجرات] وتلك حقيقة لا يستعلى عليها العقل في أعلى منازله، ولا يستغنى عن الأخذ بها.
فإذا ترقى العقل شيئا كان له لقاء آخر مع قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً} [1: النساء].
ثم ما يزال العقل يلتقى مع آيات اللّه، آية آية.. فيجد في كل آية منها لونا جديدا، تزداد به الصورة وضوحا، وعمقا.
ومن هذه الآيات:
{أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ} [20- 21 المرسلات].
{وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً} [17: نوح].
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} [12: المؤمنون].
{خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ} [14: الرحمن].
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [26: الحجر].
{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ} [45: النور].
فهذه الآيات، وكثير غيرها مما جاء في خلق الإنسان، تضع العقل أمام قضايا، ومقررات، كلها تحدث عن خلق الإنسان، وبعضها واضح جلى، يعرف بأدنى نظر، وبعضها دقيق خفى، لا ينال إلا بنظر دقيق، وإدراك سليم، مع قدر كبير من العلم والمعرفة.
ومع هذا، فإن التقاء هذه الآيات في أي عقل مؤمن لا يحدث صداما بينها، ولا يدعو إلى انفصال في وحدتها، وذلك بحمل الخفي عليه منها، على الجلىّ، والمتشابه- عنده- على المحكم.. ثم يبقى مع هذا للعقل- على امتداد الزمن- مكانه من الآيات الخفية، ينظر في وجهها، ويدور باحثا عن أسرارها.. وفي كل يوم يجد العقل من هذه الآيات جديدا من العلم، ومزيدا من المعرفة، وكثيرا من الأسرار.. وإذا التراب، والطين والصلصال، والحمأ المسنون، والماء، والنبات.. وكل هذه المواد التي تحدث عنها القرآن في خلق آدم- هى العناصر التي شكلت هذا المخلوق العجيب، والتي أقام منها الخالق العظيم، هذا البناء، في أحسن تقويم..! وحتى ليجىء العلم الحديث متخاضعا بين يدى القرآن الكريم، مستسلما ومسلما لما ضمت عليه آيات اللّه من أسرار، لم ير هذا العلم بكل وسائله إلا لمحات منها، فيما قررته علوم الحياة من تلك الصلة الوثيقة التي تصل الإنسان بالأحياء، وتجعله حلقة من حلقات سلسلتها الممتدة، الضاربة في أعماق الطبيعة.
قوله تعالى: {وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.
الخطاب هنا للناس عموما، رجالا، ونساء.. وليس للرجال، كما فهم ذلك كثير من المفسدين.. فكما خلق اللّه سبحانه للرجال من أنفسهم أزواجا، خلق سبحانه للنساء من أنفسهن أزواجا.. فكان الوفاق وكان الائتلاف بين المتزاوجين.
والمراد بقوله سبحانه: {مِنْ أَنْفُسِكُمْ} أي من جنسكم، وطبيعتكم.
وهذا من شأنه أن يؤلف بين الزوجين، وأن يجمع بينهما على الأنس، والمودة.. إذ أن الكائن الحي، ينجذب بطبيعته إلى ما يشاكله من الأحياء.
فكل جنس يجتمع إلى جنسه، ويجد الطمأنينة، والأمن، والسكينة في جواره.
سواء في هذا، الإنسان، والطير، والوحش، والذر.. حتى النبات.. فإنه يزكو، وبنضر، ويزهو في المغارس التي نجمع الجنس منه إلى الجنس.
وفي قوله تعالى: {لِتَسْكُنُوا إِلَيْها} بيان لهذه النعمة، وكشف عن وجه الحكمة فيها، وهى أنه باجتماع الإنسان إلى الإنسان، والذكر إلى الأنثى، تستريح النفس، وتسكن المشاعر، وتطمئن القلوب.. وإنه لا نعمة أجل ولا أعظم من نعمة تفيض على الإنسان الأمن والسكينة.
وفي قوله تعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} إشارة إلى أن المودة والرحمة أمران يتولدان من الألفة والسكن، وأنه لولا السكن والائتلاف، ما قامت مودة ورحمة.. لهذا جاء النظم القرآنى مفرقا بين الأمرين، فجعل المشاكلة في الطبيعة البشرية بين الناس، ذكورا وإناثا- خلقا، أي في أصل الخلقة، على حين جعل المودة والرحمة، عرضا من أعراض هذه الطبيعة، وثمرة من ثمراتها، فعبر عنها بلفظ الجعل.
{وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً}.
وهذا إعجاز من إعجاز القرآن، الذي يتجلى في روعة أسلوبه، وجلال صدقه.
إذ ليس كل لقاء بين طبيعتين متماثلتين يحدث الرحمة والمودة، وإن كان من شأنه أن يجمع، ويقرب.. فإن المودة والرحمة ثمرة احتكاك، وتجاوب، بين النفوس، وجهد مبذول، ومعاناة معطاة من كل نفس، وعلى قدر هذا الجهد وتلك المعاناة تكون الثمرة.. وما أكثر الأشجار التي لا تعطى ثمرا!! وفي قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} دعوة إلى الزوجين أن يدبرا تفكيرهما إلى هذه الآية من آيات اللّه، وأن يحققا الثمر المرجو منها. فإن لم يتحقق لهما هذا، كان عليهما أن يرجعا إلى نفسهما، وأن يصححا الوضع الذي هما عليه، حتى يحىء الثمر المطلوب من الزواج، وهو السكن، والمودة، والرحمة.
قوله تعالى: {وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ.. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ}.
فى الجمع بين خلق السموات والأرض، واختلاف الألسنة والألوان، إشارة إلى هذه الظاهرة التي لا يكاد يلتفت إليها الناس، من اختلاف ألسنتهم وألوانهم. إنها- وهى التي لا يكاد يلتفت إليها أحد- لا تقل عن خلق السموات والأرض، وما فيهما من أجرام وعوالم، في الدلالة على قدرة الخالق، وجلاله، وعظمته، وعلمه، وحكمته.
إن كل إنسان من الناس هو عالم قائم بذاته، في ظاهره، وباطنه، جميعا.
ففى كل إنسان آية متفردة من آيات الخلق، وقدرة الخالق. فعلى حين يبدو الناس وكأنهم ثمار شجرة واحدة، إذ هم ثمار مختلفة الطعوم، ولألوان، والأشكال.. كل ثمرة لها طعمها، ولونها، وريحها.
إن العين لتأخذ الناس جميعا، وكأنهم كائن واحد. فإذا عاد النظر إليهم، فردا فردا، كان كل واحد كائنا قائما بذاته، بماله من سمات، وخصائص.. فلكل إنسان نبرات صوته، ومخارج كلماته، وطبقات أنغامه، التي تميزه عن غيره، فلا تختلط نبرة بنبرة، ولا يشتبه مخرج بمخرج، ولا تتماثل طبقة مع طبقة، وإن بدا في ظاهر الأمر أن هناك تماثلا وتشابها، بين صوت وصوت، ونغم ونغم، فإن الحقيقة غير هذا، حيث توجد فروق دقيقة، وخطوط هندسية غاية في الدقة، تفصل بين صوت وصوت، وتحجز بين نغم، ونغم. وكذلك الشأن في الألوان والأشكال، والصور.. إن يد القدرة القادرة المحكمة، قد أقامت كلا منها في موضعه، وجعلت بينها حاجزا، فلا يبغى بعضها على بعض.. تماما كما حجزت بين البحرين: {هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ، وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ} هذا، في ظاهر الإنسان.. أماما في باطنه، فالأمر أعجب وأغرب.
فمنازع التفكير، ومناحى العواطف، ومسارب المشاعر، وخلجات الضمائر، ووسوسات الأهواء- إنها أمواج متدافعة على صدر محيط لا حدود له.
ومع هذا فلا تختلط موجة بموجة، ولا يضيع تيار في عباب تيار..!
وفي قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ} إشارة إلى أن عين العلم هنا، هى التي تكشف هذه الأسرار، وتطّلع على هذه الآيات.
الليل.. وما وسق:
قوله تعالى: {وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ... إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}.
ومن دلائل قدرة اللّه، أن أليس الإنسان لباس النوم، ليجد فيه الجسم سكنه وراحته، مما يعالج في يقظته من أعمال، وما يحمل من أعباء.. فكان النوم واليقظة خلفة، يدوران في فلك الإنسان، كما يدور الليل والنهار في فلك الوجود.. وبهذا التوارد للإنسان على موارد النوم واليقظة، يعرف نعمة اللّه عليه، وإحسانه إليه، ويجد للنوم طعمه الهنيء في كيانه، كما يجد لليقظة مساغها العذب في كل جارحة من جوارحه.
وفي قوله تعالى: {وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ} وفي تقديم النوم، على اليقظة التي يدل عليها قوله تعالى: {وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ} في هذا إلفات إلى نعمة النّوم، التي قلّ أن يلتفت إليها كثير من الناس، إذ كان في النوم عزل للإنسان عن الحياة، وقطع للصلة بينه وبين ذاته، حتى لكأنه قد فقد وجوده.. ومن هنا كانت نظرة كثير من الناس إلى النوم على أنه عارض دخيل على الإنسان، أشبه بالآفات التي تعرض للجسد.
وهذا فهم خاطئ هذه النعمة العظيمة التي تضيفها يد الرحمة الإلهية على الإنسان!.
وندع النظر إلى النوم- كظاهرة جسدية- وإلى وظيفته العضوية في كيان الجسد الإنسانى وتنظر إلى ما يقع للإنسان في رحلة النوم، وما يصادفه على طريقه من رؤى وأحلام، حيث تنطق قوى الإنسان الخفية، وتسبح في عوالمها، وتحقق قليلا أو كثيرا من مطالبها التي أمسكتها عنها يقظة الجسد، وقيدتها دونها جوارحه.
ففى رحلة النوم، وفيما بين اليقظة والنوم، يسبح الإنسان بعقله وروحه، فيما وراء هذا العالم المادي.. حيث لا قيود ولا سدود.. وحيث يحقق الإنسان في هذا العالم ما عجز عن تحقيقه في عالمه المادىّ، فيجد في هذا ما يجد الجوعان بعد الشبع، والظمآن بعد الرىّ! فكم من محروم، طعم في نومه من كل طيّب كانت تشتهيه نفسه، وتقصر عنه يده؟ وكم من مظلوم، اكتوى بنار الظلم من يد ظالمه، ثم جاء إليه في عالم الأحلام، صاغرا ذليلا، فكال له الصاع صاعين، وشفى ما بنفسه من قسوة الظلم ومرارته؟.
وكم من محبّ باعد الزمن بينه وبين حبيبه، وانقطع بينهما حبل اللقاء، بغربة نائية في عالم الأحياء، أو عالم الموتى.. وإذا هما في الكرى على لقاء، يتساقيان كئوس الحبّ مترعة، ويرتشفان راح المودة صافية؟.
وكم من عالم وقف به علمه أمام معضلة لم يجد لها حلّا، حتى دبّ اليأس في صدره، وغربت شمس الرجاء من أفقه، وإذا هواتف الرؤى تناديه، وتبوح إليه في نومه بما ضنت به عليه في يقظته.. وإذا الحقيقة بين يديه سافرة، والمعضلة بديهة!! وكم؟ وكم؟ وكم؟
إننا في عالم النوم لنجنى من الثمرات العقلية، والروحية، والنفسية، ما لا نحصل عليه في يقظتنا، بمدركاننا، وحواسنا.
ذلك أن النوم إذا قطع صلتنا بعالم الحسّ، وصلنا بعالم الروح.. وكما تأخذ أجسادنا حظّها من طعام وشراب، من عالمها المادي، فإن أرواحنا، ونفوسنا، وعقولنا تتزود في رحلة النوم، من عالم الروح بكل ما تستطيع الوصول إليه منه.
فالنوم ليس إلا حبسا للجسد، وإطلاقا للروح. وهو بهذا إنما يعطى الجانب الروحىّ من الإنسان حظه، من التحرر والانطلاق من كثافة المادة، وضغوطها، وظلامها.. وإلّا، فإنه لو ظنّت الروح حبيسة في كيان الجسد، تقوم على حراستها في داخل هذا السجن المظلم- الحواسّ والمدركات- لاختنقت، وانطفأ نورها، ومات شعاعها.
وماذا يبقى للإنسان أو من الإنسان إذا عطبت روحه، وانطفأ هذا المصباح الإلهى المشتعل في كيانه؟ إنه لا إنسان بغير روح، وإنه لا وجود لإنسانية فقدت روحها، وإن لم تفقد حياتها.. ومن هنا نستطيع أن نفهم قول الرسول الكريم: {الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا}.
فهذا يعنى أن الروح قد تخلصت بالموت تخلصا تاما من الجسد، وخرجت بوجودها كلية من سجنه المطبق عليها، وعندئذ بحد الإنسان وجوده كاملا.. فالإنسان في حقيقته روح، وما الجسد إلا منزلا نزلته الروح في مرحلة من مراحل السفر في هذا الوجود! ومن هنا نستطيع أيضا أن نلمح أن البعث بالروح لا بالجسد... ولهذا مبحث خاص سنعرض له- إن شاء اللّه! فالذين يستخفون بالنوم، ويمدونه ضرورة من الضرورات الثقيلة المفروضة على الطبيعة البشرية، ويحسبونه داء من تلك الأدواء التي تلحق الإنسان، وتطغى على وجوده، كالطفولة، والشيخوخة- هؤلاء مخطئون أشد الخطأ، إما لجهلهم، الذي يقصر بهم عن إدراك ما لا تلمسه أيديهم، وتذوقه أفواههم، وإما لأنهم ماديون، لا يرون إلا المادة، ولا يتعاملون إلا بها، ولا يجدون في الإنسان إلا أنه حيوان، مخلف بهذا الخلاف المادي من العظم واللحم! وإذا كان النوم- على ما رأيت- نعمة جليلة، فإن اللّه سبحانه وتعالى، قد جعل الليل الذي هو الظرف الطبيعي للنوم- نعمة جليلة أيضا، كما يقول سبحانه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ.. مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [72: القصص].
فالليل، ستار يغشى الكائنات الحية، ومنها الإنسان، فيسلمها ذلك إلى السكن، ثم النوم!.
إن لليل سلطانا قاهرا كسلطان النهار على الأحياء.. هذا النوم، وذاك لليقظة... ذلك للموت، وهذا للبعث.. {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى.. ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} [60: الأنعام].
وقد كان الليل، لسلطانه هذا، إلها، يناظر النهار، ويقاسمه حكم هذا العالم.. فدان كثير من الناس بهذه الديانة المثنوية، فجعلوا الآلهة اثنين، إلها للنور، وآخر للظلمة.. واعتقدوا في إله النور الخير، على حين كان معتقدهم في إله الظلام أنه شر، وأن الحرب دائرة بينهما، وأن على المؤمنين أن ينتصروا لإله الخير، وأن يرقبوا خلاص العالم، من الظلام، والشر، على يديه... وإلى هذا المعنى أشار المتنبي بقوله:
وكم لظلام الليل عندك من *** يد تحدّث أن المانوية تكذب
فهو يجد في الليل طيف محبوبه يلمّ به، ويسعده، في زورة من زورات الأحلام، وهذا يحدث عن الليل بما يكذب المانوية، التي تعتقد أن الليل شر لا يجىء منه خير! بل إن المتنبي ليجد هذه اليد الكريمة لليل عنده في عالم اليقظة حيث يتخذ من الليل ستارا يخفيه عن أعين الرقباء، فيقول:
أزورهم وسواد الليل يشفع لى *** وأنثنى وبياض الصبح يغرى بي
وكم تغنى الشعراء بالليل؟ وكم حدا الحداة وهم سائرون في عبابه، مأخوذون بهيبته وجلاله؟.
وكم ناجى العبّاد ربهم بالليل، وقطعوا آناءه حمدا وتسبيحا، وركوعا وسجودا؟
إن الليل، وإن لم يستول على الإنسان سلطان النوم فيه، فإن في ظلامه غرصة تحجز الحواس عن الانطلاق، وتمسكها عن العمل، وعندئذ تصحو شاعر الإنسان، وتستيقظ روحه، ومن هنا يكون مهيئا للانصال بالعالم العلوي، والوقوف على موارده، والري من مشاربه..!
ولأن الليل هو الظرف الطبيعي للنوم- كما قلنا- فقد أقسم اللّه سبحانه وتعالى به، وسمى سورة من القرآن الكريم به، تنويها بقدره، وإشارة ترفع تلك الغشاوة التي تنظر إليه نظرة باردة، أو شاردة، أو متهمة.. فقال تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى} [1- 2 الليل] وقال سبحانه: {وَالشَّمْسِ وَضُحاها وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها، وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها} [1- 4: الشمس] وقال سبحانه: {وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ} [17: الانشقاق].
وفي عطف النهار على الليل في قوله تعالى: {وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ} تقرير لتلك الحقيقة الواقعة، وهى أن الليل، وإن كان هو الظرف الطبيعي للنوم، فإن ذلك لا يمنع أن يكون النهار ظرفا للنوم أيضا، حيث ينام الناس بالليل، وينامون كذلك بالنهار، وإن كان النوم بالليل أصلا، والنوم بالنهار فرعا... ولهذا قدم الليل على النهار في هذا المقام.
ومن جهة أخرى، نجد في قوله تعالى: {وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ} وإن جاء مجاورا للنهار، فإنه معطوف على قوله تعالى: {مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ}.
وهذا يعنى أن النهار، وإن كان الظرف الطبيعي للسعى والعمل، فإن ذلك لا يمنع من أن يكون الليل ظرفا للسعى والعمل! كما هو واقع في الحياة. فالناس يعملون بالنهار، ويعملون بالليل، كما ينامون بالليل، وينامون بالنهار.
وعلى هذا يكون مفهوم النظم القرآنى هكذا: ومن آياته منامكم وابتغاؤكم من فضله، بالليل والنهار.
ولكن أين هذا من ذاك؟ هذا كلام، وذاك قرآن..!
وفي قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} وفي استدعاء السمع هنا، دون حواس الإنسان وملكاته الأخرى- في هذا إشارة إلى أن السمع الذي يحقق إدراكا، ويعطى فهما، ثم يعطى لهذا الفهم، وذلك الإدراك، ثمرة- هو السمع الذي يخلى له الإنسان حواسه كلها، ويعطيه وجوده كله، على ما يكون عليه الإنسان في الليل، وقد اشتمل عليه، وأمسك كل حواسه، فلم يبق الإنسان إلا سمعه المرهف، الموجه إلى العالم الخارجي، وما يجىء منه... وذلك ما يكون عليه الإنسان، حين يقع تحت حكم الآية:
{وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ}، فيحتويه الليل، ويبسط عليه سلطانه.
قوله تعالى: {وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.
مناسبة هذه الآية للآية التي قبلها، أنهما جميعا في معرض الدلالة على قدرة اللّه سبحانه، والكشف عن أنعمه وآلائه.. ثم إن البرق إنما يظهر سلطانه على أئمّه، حين يلمع بالليل الذي جاء ذكره في الآية السابقة.
ورؤية البرق، إشارة دالة على الرحمة المرسلة من عند اللّه، على يد هذا السحاب الذي ينطلق البرق من خلاله.. فإذا لمع البرق توقع الناس الغيث، واختلفت توقعاتهم له بين يأس ورجاء، وخوف وطمع.. وذلك أن البرق وإن كان رسولا من رسل الغيث، إلا أنه قد يحىء بالغيث، وقد لا يجىء.. فهناك برق يسمى برق الخلّب، وهو الذي يبرق ولا يصحبه مطر.. ومن هنا كان قوله تعالى: {خَوْفاً وَطَمَعاً} إشارة إلى أن لمعان البرق، وإن طلع على الناس بما يبشر بالغيث، فإنّه يضع المشاعر المترقبة للمطر، المتلهفة عليه، في موضع متأزم، بين الخوف والرجاء.. بل إن الخوف ليغلب على الرجاء، وخاصة إذا كانت الحاجة إلى المطر شديدة، والطلب له ملحا وهذا هو بعض السرّ في تقديم الخوف على الطمع.. إذ كانت الآية الكريمة منجهة أوّلا إلى من يقيمون حياتهم على ماء المطر، مثل سكان الصحارى، ونحوها. فهؤلاء إذا تأخر نزول المطر أياما، وأمسكت السماء رحمتها قليلا عنهم، فزعوا، واضطربوا، وتعلقت أنظارهم بالسماء، يرقبون السحب، ويرصدون مسيرتها.
فإذا لمع البرق، بدا لهم منه الوجه الضاحك المبشر بالخير، فقرحوا، واستبشروا.
ولكن سرعان ما يطلع عليهم شعور أسود كالح، يقطع عليهم هذه الفرحة، كأنه يقول لهم: وما يدريكم أن وراء هذا البرق مطرا؟ ألا يجوز أن يكون برفا خلبا؟ وهنا يأخذ الخوف مكان الصدارة على مشاعرهم، شأن الحريص على الشيء، المتلهف إليه... يغلب عليه الخوف على فقده أكثر من الطمأنينة إلى بقائه!.
قوله تعالى: {وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} قيام السماء والأرض بأمر اللّه، هو حفظ نظامهما، والإمساك بهما على هذا النظام الذي أوجدهما اللّه سبحانه وتعالى عليه.. وأمر اللّه، هو سلطانه وقدرته.، وهذا يعنى أنه إذا ساغ لتفكير إنسان أن يضيف هذا الوجود، في أرضه وسمائه إلى غير اللّه سبحانه، كما يقول بذلك الملحدون من الطبيعيين الذين ينسبون الموجودات إلى الطبيعة، ويقولون إن الأشياء وجدت هكذا بطبيعتها- نقول إنه إذا ساغ لتفكير إنسان أن يقول مثل هذا القول، فكيف يسوغ له أن يقول إن هذا التجاوب بين الموجودات، وهذا النظام الذي يمسك بها، ويولّف منها نغما موسيقيا منسجما- هو من عمل الطبيعة ذاتها؟ إن هذا يعنى أن الطبيعة عاقلة، حكيمة، مدبرة، عالمة، قادرة.. وهذه هى بعض صفات الألوهية.. فلم تسمّى إذن الطبيعة طبيعة، ولا تسمى إلها؟
إن المسافة قريبة جدا هنا بين الطبيعة وبين الإله.. وإنه لأقرب إلى العقل والمنطق أن يقوم على الموجود مدبّر واحد، يولف بين وحداته، ويجمع بين أشتاته، بدلا من قيام مدبرات تقوم في وحدات الطبيعة، وتجعل منها نظاما واحدا!- وفي قوله تعالى: {ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ}.
إشارة إلى أن أمر اللّه وسلطانه، الذي تقوم به السموات والأرض، أن تدعوا من القبور بعد موتكم، دعوة واحدة، فإذا أنتم قيام تنظرون.
وهذا يعنى أن البعث بعد الموت، نظام قائم في هذا الوجود، أشبه بنظام دوران الكواكب في أفلاكها، والليل والنهار في فلكهما.
وفي العطف بثم إشارة إلى أن هذه الدعوة التي يدعى بها الموتى لم يجى وقتها بعد، وأنها أمر مستقبل، لا يعلم أحد متى يكون.. وإن كان من المعلوم أنها لا تقع إلا بعد أن يموت الناس جميعا.. وفي تصدير الجملة الخبرية {إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} بأداة المفاجأة {إذا} إشارة إلى أن البعث من القبور سيعقب الدّعوة مباشرة، بلا مهل... كما يقول سبحانه: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} [51: يس]. والفجاءة إنما نقع على أولئك الذين لا يرجون بعثا، ولا يؤمنون بالحياة الآخرة.
ولهذا فهم إذا بعثوا أخذهم الدهش والعجب، وقالوا ما حكاه القرآن الكريم عنهم: {يا وَيْلَنا.. مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا؟} [52: يس].
قوله تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ}.
القانت: الخاضع المستجيب لغيره، طوعا.
والآية تعقيب، على الآية السابقة، وأن هذا الوجود في سمائه وأرضه، هو خاضع لأمر اللّه، مستجيب له.. وأن الموتى إذا دعوا من قبورهم لا يملكون إلا أن يستجيبوا لما دعاهم إليه سبحانه وتعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً} [93: مريم] وفي التعبير عما في السموات والأرض من مخلوقات، بلفظ {من} التي للعقلاء- إشارة إلى أن هذه الموجودات، محكومة بنظام، مسيّرة بحكمة وعلم، حتى لكأن في كل كائن منها عقلا مدبّرا، وموجّها.. فهى بهذا الاعتبار، عاقلة، مدركة!.
قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
وهذه الآية تعقيب كذلك على الآية السابقة، وهى تقرر أن من له من في السموات والأرض، هو الذي بدأ الخلق، وهو الذي يعيده كما بدأه.
والمراد بالخلق هنا، المخلوقات كلها.. وهذا يعنى أن الوجود في حركة دائمة، وفي هدم وبناء مستمرّين.. وأن الوجود في أية لحظة، هو على غير صورته في اللحظة السابقة أو اللاحقة.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ}.
فمعنى الهلاك هنا هو التحول، والتبدل، وتغاير الصور والأشكال، وليس معنى الهلاك الفناء المطلق... إذ أن المادة لا تفنى، وإنما تتبدّل وتتحول، وتأخذ قوالب مختلفة! وكذلك ما جاء في قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ} هو من هذا المعنى، وأن الفناء هو زوال صور الأشياء، وقوالبها وأخذها صورا وقوالب أخرى.. فعملية الخلق مستمرة دأبا، وتقابلها من جهة أخرى عملية الموت، أو البلى، أو الفناء، أو الهلاك.
وكلها هنا بمعنى واحد، وهو التحول والتبدل، لا الفناء المطلق الأبدى، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى، {كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ} [104: الأنبياء].
وقوله تعالى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}.
{أهون} صيغة تفضيل، وأصله من هان الأمر، أي خف بعد ثقل، وأمر هين: خفيف الحمل، قليل المئونة، ومنه قوله تعالى: {قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ}.
وليس بالإضافة إلى اللّه سبحانه وتعالى، ما هو هين، وأهون منه.. فكل شيء في قدرة اللّه، لا يعجزه سبحانه، شيء في الأرض ولا في السماء.. لا يتكلف- سبحانه وتعالى- لأمر جهدا.. {إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.
يستوى في هذا كبير الأمور وصغيرها.. السموات والأرض ومن فيهن، هى في قدرة اللّه كالذرة أو البعوضة.. {ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ}.
فهذا التفضيل {أهون} منظور فيه إلى قدرة الإنسان، وإلى ما يقوم على صنعه من أشياء.. فاختراع الشيء، لا يتوصل إليه الإنسان إلا بعد جهد، ومعاناة، وتبديل وتغيير، وتسوية، وحذف وإضافة، حتى يستقر الشيء على الصورة التي يرتضيها.، فإذا انتهى الإنسان إلى تلك الصورة، كان حلها وتركيبها، أمرا هينا عنده، لا يتكلف له جهدا.. إن مثال الصورة قائم بين يديه، وحاضر في تفكيره، وما عليه إلا أن يضع الأجزاء التي تناثرت أشلاؤها، في هذا القالب، فإذا الصورة قائمة على ما كانت عليه.
وفي قوله تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} إشارة إلى أن قوله تعالى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} هو من قبيل التمثيل، بضرب هذا المثل اللّه، منتزعة صورته من أفعال الخلق، وتعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا.. فهو سبحانه: {العزيز} الذي تعنو لعزته وسلطانه كل عزة، وكل سلطان، ويستجيب لقدرته كل موجود في هذا الوجود.
{الحكيم} الذي تقوم عزته، ويعمل سلطانه، ويمضى حكمه- بالحكمة والعدل، والإحسان.

1 | 2 | 3